عباس العقاد
في أقصى الصعيد، وفي بلدة تحيطها تلال من الرمال، ولا تنقطع عنها أشعة الشمس اللافحة، في مدينة (أسوان) مدينة الشمس والتاريخ، استقبلت أسرة محمود أفندي إبراهيم مصطفى العقاد مولودًا جديدًا، سُمِّي: عباسًا في يوم الجمعة الثامن والعشرين من يونيو عام 1889م فهرولت نسوة الدار إلى محمود أفندي معاون قلم محفوظات المدينة ينقلن إليه البشرى، ويهنئنه بهذا الحدث السعيد.
كان أجداد العقاد يعملون في صناعة الحرير، فعرفوا بذلك اللقب العقاد؛ الذي يطلق على من يعقد الحرير، ونشأ الطفل الصغير عباس بين أسرة تعرف الله حق
المعرفة، فمنذ أن طلت عيناه على نور الدنيا وجد أبويه يستيقظان قبل الفجر لأداء الصلاة، وكان دائمًا يستمع إلى عبارات الحب للنبي -صلى الله عليه وسلم- بل إن أسماء النبي وآله كانت تتردد في جنبات البيت ليل نهار، ولا عجب في ذلك فأسماء إخوته: محمد وإبراهيم والمختار ومصطفى وأحمد والطاهر.
وفي بيت ريفي قديم عاش عباس العقاد معتزًّا بنفسه، غيورًا على أهله وكرامته، تلقى عباس العقاد مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم في كُتَّاب القرية.. حتى إذا ما بلغ السابعة من عمره ألحقه والده بمدرسة أسوان الابتدائية، وبين جدران هذه المدرسة ظهرت علامات الذكاء والنبوغ على عباس العقاد، وكان مدرس اللغة العربية يعجب به إعجابًا شديدًا، كلما طالع كراسته في الإنشاء.
وفي يوم من الأيام، وبينما عباس في الفرقة الرابعة الابتدائية، إذا بالشيخ محمد عبده الذي كانت له مكانة كبيرة في ذلك الوقت يزور المدرسة، فيطلعه مدرس الإنشاء على موضوع كتبه عباس، فأعجب الشيخ به إعجابًا شديدًا وقال: ما أجدر هذا الصبي أن يكون كاتبًا بعد، فكانت هذه الجملة التي قالها الشيخ محمد عبده حافزًا قويًّا لعباس العقاد في ذلك الوقت المبكر، جعلته يسلك طريق الكتابة دون
سواها.
وفي الشارع الذي كان يقع فيه منزل الأسرة، كان عباس يستمع إلى القصص الخيالية من كبار السن، فكانت هذه القصص سببًا في تفتح مواهبه الأدبية والشعرية إثراء خياله، فأنشد الأناشيد قبل أن يبلغ العاشرة، ونمت مواهبه الأدبية أكثر وأكثر إذ كان والده يصحبه عصر كل يوم إلى جلسات الشيخ أحمد الجداوي الأدبية، وكان عباس أحيانًا يذهب إلى هذه الجلسات بمفرده ليعرض على الشيخ الجداوي ما كتبه من موضوعات الإنشاء، وكان بارعًا في حل المسائل الرياضية.
وكان والده محمود أفندي يقتني بعض المجلات الشهيرة في ذلك الوقت مثل
مجلة الأستاذ لـ(عبد الله النديم) و(أبو نضارة) و(العروة الوثقى) فقرأها الصبي الصغير، وأعجب بها، وخصوصًا مجلة الأستاذ لعبد الله النديم خطيب الثورة العرابية فتأثر به تأثرًا شديدًا، حتى إن عباسًا أخرج صحيفة التلميذ محاكيًا بذلك صحيفة الأستاذ للنديم.
وكانت أسوان مدينة سياحية يأتي إليها السائحون، ويختلطون بأهلها، فأتيحت الفرصة لعباس ليتحدث معهم ويختلط بهم، كما تهيأت له الفرصة لكي يتقن اللغة الإنجليزية حيث كانت تتدرس العلوم باللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية في ذلك الوقت، فقرأ عباس في الأدب الإنجليزي كثيرًا، وأصبحت له حصيلة أدبية كبيرة.
وخلال تلك الفترة المبكرة من حياته، أخذ الصبي عباس العقاد يحلم كثيرًا، ففكر أن يتم تعليمه بالمدرسة الحربية، أو يدرس علم النبات والحيوان، وظل الفتى يتمنى تحقيق تلك الآمال وهذه الأحلام إلى أن تخرج في المدرسة الابتدائية وحصل على شهادتها سنة 1903م ورأى أبوه أن يكتفي بما حصل عليه من العلم وأن يعين في الوظيفة الحكومية (الميري) فلم يجد الفتى بُدًّا من أن يطيع كلام والده.
ومكث في البيت في انتظار الوظيفة تحقيقًا لرغبة والده وأفراد أسرته، وطال
انتظاره، فتطوع بالتدريس في المدرسة الإسلامية الخيرية بأسوان، لكن والد العقاد استطاع بعد فترة أن يوظفه بأربعة جنيهات بالقسم المالي بمدينة قنا سنة 1904م، وفي أثناء عمله بالصعيد كان هو وبعض زملائه الموظفين من أنحاء قنا يعقدون الندوات الأدبية لإلقاء الزجل ومقطوعات الشعر التي ينظمونها، ثم انتقل عباس العقاد في
العام نفسه إلى مدينة الزقازيق، وأخذ يتردد على القاهرة كل أسبوعين لينهل من ندواتها الأدبية ويقتني منها الكتب القيمة.
وفي سنة 1906م استقال العقاد من وظيفته بعد أن ملَّ منها؛ فذهب إلى القاهرة والتحق بمدرسة الفنون والصنائع، ثم تركها وعمل بمصلحة البرق، وكان يسكن في حجرة يستأجرها ببضعة قروش يضع فيها كل ما يملك من كتب قديمة كان يشتريها من حي الأزهر العتيق، وتتعثر أحوال عباس العقاد المادية، ويعجز عن مواجهة أعباء الحياة، حتى إيجار الحجرة التي كان يسكن فيها أصبح يمثل له مشكلة كبيرة، فاضطر إلى الرحيل إلى بلدته أسوان تاركًا كتبه ومتاعه في الحجرة، فمكث هناك مدة
قصيرة، ثم عاد إلى القاهرة، فتمكن من العمل بجريدة الدستور مع المفكر الإسلامي الكبير محمد فريد وجدي سنة 1907م بمرتب قدره ستة جنيهات، واستطاع أن يجري حديثًا صحفيًّا مع الزعيم سعد زغلول، وكان وزيرًا للمعارف في ذلك
الوقت، فأحدث ضجة صحفية كبيرة، وفي عام 1909م تعطلت صحيفة الدستور فاضطر محمد فريد وجدي أن يبيع كتبه ليسدد بها أجور العمال وأصحاب
الديون.